فجر 
يا أولاد كم مرة قلت لكم أن هذا الطعام للغد ؟
ألا تفهمون ألا تعون ما أقوله لكم ، علينا توفير ما تبقى من طعام حتى خروجنا من هذا المكان ، اللهم أوقف هذه الحرب . أصمت هذه الحرب _تصيح باكية_ .
أنت يا شيماء أحتضني " فجر " الصغيرة وداعبيها لتسكت ، وأنت يا هدى أجمعي زجاجات الماء والطعام ، سنأخذ ما نستطيع حمله فقط .
جهاد ونصر لملما الأغراض ، سنغادر فورا عندما تهدأ القذائف قليلا .
(تحتضنهم) ، يا أولاد :
_ إسمعوني جيدا ، أريد أن تعاهدوني أن تبقوا معا ، لا تتخلوا عن بعض ، لا تفترقوا مهما حصل .
_لماذا تقولين هذا يا أمي (تقول شيماء باكية) ، هل ستتركينا مثل أبي .
_ لا يا حبيبتي . لن أفعل لن أترككم أبدا ، تضمها إلى صدرها .
لا يوجد في هذا الحي سوانا وعائلة أبو رمزي في العمارة المقابلة لقد هجر الجميع المكان . اتفقت معهم على الخروج من هنا معا ، في أول توقف لإطلاق النار .
تنظر لبيتها ، لأولادها ، لصورة زوجها الشهيد على. الحائط ، تركض باتجاهها تحتضنها وتضعها مع حاجات السفر .
المشهد مرعب أمامها ، عمارات مهدمة ، دخان ، رائحة بارود ،دوي انفجارات ، رعب شديد ، شكل بطولة المشهد العام . مدينة أشباح تسكنها وعائلة أبو رمزي فقط ، بين فصيلين متقاتلين .
يحل المساء . تصيح . يا أولاد إياكم وإشعال الشمع ، قد يرانا أحد القناصين ويفهم أننا هدف معاد .
تدعو ابنتيها شيماء وهدى على إنفراد :
_ اسمعاني جيدا ، يا قرتا عيني ، عندما نغادر سنمشي بين الفصائل المتقاتلة عدة كيلو مترات ، سنلتقي ببعض الميليشيات ، ابقيا نظركما للأسفل دوما ، لا حديث ولا ابتسام حتى ،سأبقي شعركما مبعثرا ، و ستلبسان ملابس قبيحة ، هل فهمتما .
_ لا يا أمي ، لم نفهم .
_ فقط افعلا ما أقوله لكما . لقد كبرتما الآن ، اقتربتما من الخامسة عشر . 
أيام مرت ، تأتي الإشارة من جارهم أبو رمزي ، غدا قبيل الشروق سنبدأ الرحلة ، تشير بيدها من بعيد لهم أنها فهمت ما يقولون .
تجهز كل شيء للرحيل ، الماء ، الطعام ، بعض الملابس البيسطة ، وعند بزوغ الشمس . تبدأ العائلتان الرحلة .
يا أولاد : عليكم السير بسرعة ، لا تلتفتوا للخلف ، لا تسمعوا كلام أحد ، امسكوا بأيدي بعضكم البعض . 
في أخر الحي تلمح بعضا من رجال الميليشيات ، ينظر أحدهم للفتيات ، يسقط قلبها رعبا ، يمشي بإتجاههم ، تسرع هي وأولادها مهرولة ، تهمس للفتيات إياكم والنظر للخلف . صوت من بعيد ينادي ، لرفاقه هيا جميعا إلى هنا . هناك خطب ما في تلك العمارة ..يرجع الجندى القهقري ، تسافر عيناه مرة للقائد و مرة للفتيات . يسيل لعابه ككلب مسعور .
يهدأ قلبها ، تحمد الله ، تصل أخيرا حيث ستقلهم ، سيارة صغيرة إلى الحدود . 
تسألان الأم : 
_لماذا كان يلاحقنا ذلك المسلح يا أمي ؟ . 
_إنها الحرب يا بنتي ، كل شيء فيها مباح ..
مباح كيف ( سألت أمها ) . يعني كل شيء هو ملك للمقاتل حتى يؤول الوطن لأحدهم ..
قد ترين جنديا يحمل علم الوطن بيده قنبلة ، وأخر يحمل شعار الوطن بيده خنجر ، وأخر ملتح يحمل راية خضراء ويبيع الحبوب المخدرة ليحصل على المال فيطهر الوطن ، وأخر يحمل شعار الحرية ويستعين بالغريب على أخيه ، وأخر ، وأخر ...هم كثر يا حبيبتي يتقاتلون من أجل الوطن ، يضحون بأنفسهم من أجله هكذا يعتقدون . لا تنظري لشعاراتهم ، إن قلوبهم قاسية كالحجر على الوطن ، وإن أنيابهم اشحذ من ناب الوحوش على طرائدها .سنترك لهم الوطن و سنعود حالما يتوقف القتل والدمار .
أخير تصل العائلتان إلى الحدود ..هناك عشرات الأسر سبقتهم .
يهرولون إلى الساتر الترابي . البهجة تملأ قلوبهم والابتسامة ترسم محياها على شفاههم . أخيرا : لا قلق ، لا رعب ، لا جوع ..أصوات أنفاسهم ولهاثهم تطرق كل ذرات الوطن مودعة . توقهم للأمان والحرية يفوق كل شيء .
في الجهة المقابلة ، يطلق الجنود طلقة تحذيرية ، يصبح الراحلون ، بصوت عالي: "نحن لاجئون ".
يطلب منهم الجندي الدخول واحدا ، واحدا ، رافعين ايديهم للأعلى خوفا من وجود أرهابيين ، تبدا الوجوه المبتهجة بالدخول سراعا ، ياتي دور ألام وأولادها ، اخيرا وصلنا "حمدا لله تصيح باكية ". تركض باتجاه شجرة عملاقة ، الوقت الآن ليلا تضع " فجر الصغيرة " وتترك معها شيماء ونصر ، ترجع مسرعة مع هدى وجهاد لحمل الأغراض من الساتر ، تعود لاهثة لابنتها .
ضوءءءءء عظيم فجر ظلام الليل ، رائحة بارود لوثت الفضاء ، قذيفة من الوطن ، تأتي من الخلف . غبار عظيم ، صوت نواح وصراخ . رائحة شواء. 
بعد أن انقشع الغبار . أيدي وأقدام مقطعة مرمية هنا وهناك ، جثث تفحمت ، جلبة جنود ، وامرأة تتكئ على برواز خشبي يحمل صورة رجل...
...صمت ..................
تحت شجرة السنديان سمع الجنود صوت مناغاة وضحكات طفلة ، هرع الحشد ..ريش هدهد تناثر فوق وجه" فجر" الصغيرة ، تداعبه وتضحك . رمت شيماء وجهاد نفسيهما على أختهما ، نحبا ...صرخا .
ضحكت "فجر" . وصمت العسكر .
عواد المخرازي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

#ديوان_الحب_الصادق #بقلم_د_مهاب_البارودي 318 - اشتاقك