للغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع علم البديع.. ..بقلم محمد رزق

للغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع
علم البديع
دروس مهمة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس التاسع عشر ( 19 )
[ المطابقة ]

الجزء الأول
المطابقة يقال لها التطبيق والطباق، والمطابقة في اللغة أن يضع البعير رِجله في موضع يده، فإذا فعل ذلك قيل طابق البعير.
وقال الأصمعي المطابقة أصلها وضعُ الرِّجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع
وقال الخليل بن أحمد يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حد واحد
وليس بين تسمية اللغة وتسمية الاصطلاح مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح: الجمع بين الضدين في كلام أو بيت شعر، كالإيراد والإصدار، والليل والنهار، والبياض والسواد.
وليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غيرهما أعني البياض والسواد فقد قال الرُّمّاني وغيره: البياض والسواد ضدان بخلاف بقية الألوان لأن كلا منهما إذا قوي زاد بعدا من صاحبه
وإذا ألحقوا بقية الألوان بالمطابقة فالتدبيج أحق منها بذلك فإنهم أوردوا في المطابقة من التدبيج قول ابن حيوس على جهة الكناية: [من الكامل]
فافخرْ بعمٍّ عمَّ جودُ يمينه **** وأبٍ لأفعال الدَّنية آبي
ببياضِ عرضٍ واحمرارِ صوارمٍ ***وسوادِ نقعٍ واخضرارِ رحابِ
وقد تقرر أن المطابقة الجمع بين الضدين عند غالب الناس سواء كانت من إسمين أو من فعلين أو غير ذلك
قال الأخفش وقد سئل عنها: أجد قوما يختلفون فيها فطائفة وهم الأكثر يرون أنها الشيء وضدُّه وطائفة يزعمون أنها اشتراك المعنيين في لفظ واحد منهم قدامة بن جعفر الكاتب، وأوردوا في ذلك قول زياد الأعجم
ونُبِّئتُهمْ يستنصِرون بكاهلٍ ... وللؤم فيهم كاهلٌ وسنامُ
فكاهل الأول اسم رجل والثاني كاهل الإنسان العضو المعروف فاللفظ واحد والمعنيان مختلفان وهذا هو الجناس التام بعينه. وقال الأخفش من قال إن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد فقد خالف الخليل والأصمعي، فقيل أوكانا يعرفان ذلك فقال: سبحان الله من أعلم منهما بطيبه وخبيثه وما أحسن ما أتى الأخفش في الجواب بالمطابقة حين قال: بطيبه وخبيثه..
ولقد شفى زكي الدين بن أبي الأصبع القلوب في ما قرره فإنه قال المطابقة ضربان: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز. فما كان بلفظ الحقيقة سُمّي طباقا، وما كان بلفظ المجاز سُمي تكافؤا
فمثال التكافؤ وهو من إنشادات قدامة: [من الكامل]
حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق
فقوله حلو ومر يجري مجرى الاستعارة إذ ليس في الإنسان ولا في شمائله ما يذاق بحاسة الذوق.
وما أحلى قول القائل في هذا الباب: [من الطويل]
إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائمه
فالمطابقة بين اليقظان والنائم ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الأصبع
وأما المطابقة الحقيقية التي لم تأت بغير ألفاظ الحقيقة فأعظم الشواهد عليها قوله تعالى ( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيى ) وكقول النبي للأنصار رضي الله تعالى عنهم ( إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع ) فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة
ومن الشواهد الشعرية قول الحماسي: [من الطويل]
تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولآخر في وصف فرس وأجاد: [من الخفيف]
وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يوما عنانه بشمالي
والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق قوله تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) فانظر إلى عظم هذه المطابقة وما فيها من الوجازة
ومن ذلك في الحديث قول النبي ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن ديناه لآخرته ومن الشبيبة للكبر ومن الحياة للممات فوالذي نفسي بيده ما بعد الحياة مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار )
ــ ولهم مطابقة السلب بعد الإيجاب، وهي المطابقة التي لم يصرح فيها بإظهار الضدين كقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فالمطابقة حاصلة بين إيجاب العلم ونفيه لأنهما ضدان
ومثله قول البحتري: [من الطويل]
يُقيَّضُ لي من حيث لا أعلم النّوَى ... ويسري إليَّ الشوقُ من حيث أعلم
فالمطابقة باطنة ومعناها ظاهر فإن قوله لا أعلم كقوله جاهل
والسابق إلى هذا امرؤ القيس بقوله: [من الطويل]
جزعتُ ولم أجزع من البيْنِ مَجزعا ... وعَزّيتُ قلبا بالكواعب مولعا
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الجزع ونفيه، ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم:[من الكامل]
خُلِقوا وما خُلقوا لمكرُمةٍ ... فكأنهم خُلقوا وما خُلقوا
رُزقوا وما رُزقوا سماحَ يدٍ ... فكأنهم رُزقوا وما رُزقوا
ومثله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه الفرح عند الموت فقيل له أتفرح بالموت فقال: ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي عند مخلوق لا أرجوه
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الرجاء ونفيه
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

#ديوان_الحب_الصادق #بقلم_د_مهاب_البارودي 318 - اشتاقك