سبات عميق بقلم: رفاه زايرجونه بغداد: العراق


سبات عميق
بقلم: رفاه زايرجونه
بغداد: العراق
فتحت نافذة غرفتها المشرفة على حديقة بستانهم المطل على ضفة نهر دجلة حيث الطيور المهاجرة تسبح في حافة الجرف.. والنباتات وأشجار النخيل التي تعتني فيها كل يوم المحيطة بالدار من كل جانب .. كل زهرة أو شجرة، سقتها ورعتها حتى اكتمل نموها و أينعت... كانت تتفقدها كل صباح عبر نافذتها ترمقها بعين الرضا عن نفسها مع ابتسامة خفيفة على محياها.. ترتشف أروع أنواع السواد.. سواد يميل إلى حمرة يفوح منه شذى قهوة أعدتها بذاتها .. كان فنجان قهوتها الصباحي شيئا مقدسا لا يمكنها الاستغناء عنه أو تأجيل موعده.. له طقوس اعتادت عليها منذ سنوات ولم تفكّر يوما في إزالتها أو حتى تغييرها.. يرافق قهوتها دائما كرسي صمّم خصيصا ليكون أكثر راحة من سعف جريد النخيل، تقرأ كتاب او تستمع الى موسيقى هادئة.. كما كانت كثيرة العناية في زريبة الحيوانات والتي تدر عليهم أرباحا مادية وغذاء مستفيدة من لحومها واصوافها والبانها والبيض.. تلك كانت طقوس صباحها ،قبل الذهاب لمدرستها حيث كانت تدرس مادة اللغة الانكليزية في المدرسة القريبة من قريتها القاطنة بها. وبعد زواجها وانتقالها الى محافظة بغداد، تغيرت هذه الطقوس حيث المدينة المزدحمة بالسكان والضجيج وضعف العلاقات الاجتماعية .الا أنّها اليوم تحس إحساسا دخيلا يقتحم حياتها الروتينية ليزعج رتابة يومها.. الوحدة ... إحساس مزعج يوشك أن يكون قاتلا.. ما أيقظك أيها العقل اللّعين.. كانت تعيش بسلام يغشي قلبها إحساس بالأمان أساسه الاكتفاء . كانت تكفيها قهوة تعدها بمزاج معتدل قنوع ونغم جميل، تسرح مع ألحانه في خيال بعيد و كتاب تسافر مع صفحاته إلى كل المدن التي عجزت عن الحصول على تأشيرة العبور إليها.. كانت راضية بواقعها و لم تحاول يوما تغييره بل لم تجرؤ حتي على التفكير في ذلك. اليوم كل الأمور عادية إلا أن فكرا ما يتسلل إلى عقلها ويقتحمه غير مبال بما يتركه من ضيق وكآبة.. فكرت في أشياء ربما مضت ولن تعود و أخرى تراها بعيدة ولن تكون. أمسكت بفنجانها الأبيض كنقاء قلبها و رفعته في صمت وبطء بيد مرتعشة فترشفت سواد ما يحتويه.. سواد كسواد هذه الغيمة التي تخيم على تفكيرها .. ترشّفت منه قليلا و فكرها شارد لا مبال بما يحدث حولها ثم أبعدتها عن شفتيها في ازدراء متسائلة ؟! مال طعم القهوة اليوم مختلف لا يحمل تلك اللّذة المعتادة و ما لهذه الموسيقى تغير وقعها وكأن أجراس العالم تدق رأسها. حتى النسيم المعطّر برائحة الياسمين الذكية يهب اليوم على غير عادة في قوة محتجا ثائرا كأنه يصفعها لتستفيق.. ،أفيقي فإن الذي يرضيك اليوم لن يدوم، أفيقي فإنّ ما تكتفين به ليس بكاف سرحت مع ذكرياتها القديمة برهة، كيف كانت أحلامها... أحلام زهرية شاركها فيها الأعزاء.. لقد انسحبوا من مسرحية حياتها الواحد تلو الآخر وكل من يرحل يحمل معه مشهدا عزيزا أتقن أداء دوره فيه ، أين أبطال رواية حياتي ؟ هكذا نادت المسكينة، بصوت خفي.. لم يبقى غيري هنا.. ،أنا فقط، وحيدة أواصل شريط حياتي بمفردي.. هذا أمر صعب.. بعد وفاة زوجها لم تتمكن من استيعاب الفكرة، كانت قاسية على عقلها الرطب قليل التجارب فقير الخبرة.. أدركت حينها أنها أضاعت ما أضاعت من سنين حياتها ترتجل دورا ليس دورها كانت تتقن أداء دور القوية الصامدة في حين لم تكن سوى مخلوقة ضعيفة بائسة ..،كيف كانت ترى نفسها بصورة اللّبوة الشرسة و هي لم ترتق حتى إلى أن تكون ظلّ قطة. أغلقت نافذتها وارتمت على سريرها تتخطّف غطاءها فسرعان ما التفّت به وأخفت كل جسمها تحته وكأنها تختبئ فيه من الغمامة السوداء حتى تنجلي أو كأنها تغطي ما بدا لها من ضعفها.. لقد اكتفت بالهروب من تلك الأفكار بدل مواجهتها و لجأت إلى النوم الذي رأت فيه الحل الأنسب لراحتها من كل هذه الشوائب الذهنية المزعجة.. هدأت أطرافها بعد تشنج واسترخت مستسلمة لسبات عميق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

#ديوان_الحب_الصادق #بقلم_د_مهاب_البارودي 318 - اشتاقك