وعة " حين نفتقد اللغة ....بقلم / محمد البكرى

مدونة الدكتور محمد البكرى
وعة " حين نفتقد اللغة ".. وهنا لغة مفقودة ايضا داخل القوات المسلحة .. وهى تروى قصة مجند فى الجيش .. فضلا تماسك ولا تبكى .. لانى أنا شخصيا بكيت كثيرا من أجل هذا الجندى !
++++++++++++++++++++
: لو سمحت يافندم 
: نعم
: أنا جيت أطلب من حضرتك ثلاثة أيام أجازة .. لأنى تركت أمى وحدها ، بين الحياة والموت !
: اتفضل على السجن الأول وبعدين اطلب أجازة .
عبارة قالها صول السرية ببساطة .. وهو لا يشعر أن أمامه إنسان ، ثم نظر فى ساعته وأكمل ..
: الساعة الآن العاشرة صباحا ، تأخرت ساعتين ، يعنى غياب عن الوحدة من الثامنة صباحاً .
: مقدرتش أترك أمى قبل ما أشترى لها الدواء .. أرجو أنك تسمح لى أكون جنبها فى ظروف مرضها .. دى حالتها خطيرة ، وملهاش غيرى ، وأخويا الوحيد مسافر !
: مش عايز مناقشة .. الأول تدخل السجن ، وتنتظر مكتب رئيس الشئون الإدارية 
: ممكن أدخل لسيادته قبل ما تدورنى على السجن استسمحه فى أجازة ؟!
: سيادته مشغول .. وبكرة الخميس سيادته فى أجازة والجمعة عطلة رسمية .. يبقى يوم السبت وأنت بخير ..
قالها صول السرية المجتهد دائما فى عمله ، الحريص على تطبيق الميرى كما أنزل .. فى هدوء وسكينة .
:وأمى يا فندم ؟!!
: تموت .. أنا مسئول عنك .. مش عن أمك .
وبعد دقائق كان أمر الحبس مكتوباً والجندى المختنق بأحزانه وغضبه داخل الزنزانة . لم يكن فى طبعه أن يرفض بعناد أو يثور ، ربما كانت جرأة الشباب عنده منذ عام مضى .. قبل أن يلتحق بالخدمة العسكرية ، ولكنه هنا ومع الأيام تعلم ألا يثور .. وحتى هذا الموقف الذى يستدعى أن يغضب ويفعل شيئاً .. أى شئ .. لم يستطع أن يميز بينه وبين أى موقف آخر .. فأخيراً لم يعد قادراً على التمييز السليم ، وفى غرفة السجن نظر إلى زملائه وبدأ يحدثهم ..
:تصوروا يا جماعة .. أنا أمى بتموت فى البيت .. وأضطريت أتأخر النهاردة ساعتين .. وحطونى فى السجن ، ومش قادر أخرج أشوفها .. والمكتب لسه يوم السبت !
لم يلتفت إليه أحد من المساجين ، وكل مشغول فى نفسه وهمومه .. ففكر أن يقول كلامه لحارس السجن .. وطرق الباب .. ففتح الحارس باب الزنزانة نصف فتحة ، وقبل أن يسأله الحارس عن طلبه بادره بصوت يخنقه الألم .
: تصور يا فندم .. أمى بتموت فى البيت .. واضطريت أتأخر النهاردة .. وحطونى فى السجن .. مش قادر أخرج أشوفها .. والمكتب لسة يوم السبت !
وكأن الحارس لم يسمع شيئا .. وببرود قال له :
: لما ييجى الحكمدار اشتكى له فى طابور التمام .
***************
وجاء الحكمدار يأمر المساجين بالخروج ليتمم عليهم ، فذهب إليه يروى له مختنقاً بدموعه الحبيسة ..
: تصور يا فندم .. أمى بتموت فى البيت .. واضطريت أتأخر النهاردة .. وحطونى فى السجن ..ومش قادر أخرج أشوفها .. والمكتب لسة يوم السبت !
كاد " العريف " أن يتعاطف معه ، ويذهب به إلى القائد النوبتجى لعله يوفق فى إيجاد حل لمشكلته ، ولكنه تذكر تحذير صول السرية له من ألاعيب العساكر ، ونصيحته له ألا يصدقهم .. فهم دائماً كاذبون .. وهو عريف مشهود له بالذكاء .. فكيف تمكن هذا الوغد من اقناعه بالأكاذيب .. تناسى المشكلة تماماً .. ومات تعاطفه وهو يتذكر كل هذا .. فأعاد الجندى المختنق بأحزانه إلى غرفة الحبس .. وفى المساء كاد الجندى أن يجن وهو يتذكر أمه المريضة وحدها .. فأخذ يطرق الباب فى هيسترية حتى أتى له الشاويش النوباتجى .. فانطلق يحدثه .. 
: تصور يا فندم .. أمى بتموت فى البيت .. واضطريت أتأخر النهاردة .. وحطونى فى السجن .. ومش قادر أخرج أشوفها .. والمكتب لسة يوم السبت !
نظر إليه الشاويش النوباتجى برهة ثم قال ..
: أنا مقدرش أخرجك .. أنت عارف الأوامر .. وعموماً أنا هحكى مشكلتك للصول النوباتجى وهو أقدر منى على التصرف .
**************
وكان الصول غير متواجد بالوحدة لاعتياده الزوغان خلال النوبتجيات .. فتركوه حتى الصباح .. وحين أتى الصول مبكراً قبل الطابور ، وكأنه أمضى ليلته بالوحدة ، قابله الجندى وسط دموعه ، وهو لا يكاد ينطق عبارة متصلة ..
: تصور يا فندم .. أمى بتموت فى البيت .. واضطريت أتأخر.. وحطونى فى السجن .. مش قادر أخرج أشوفها .. والمكتب لسة يوم السبت !
وأبلغ الصول شكواه للضابط النوباتجى .. الذى فضل أن يترك الموضوع للضابط الذى سيستلم منه . 
وكما مر الأربعاء .. مر الخميس والكل يحلم بما سيفعله فى اجازته الأسبوعية .. وفى يوم الجمعة تتوقف الحلول لكل أنواع المشاكل .. وأخيراً جاء السبت على الجندى المختنق فى مأساته ، والذى بدأ ، فى هيئة غريبة .. يبتسم فى بلاهة وكأنه على وشك أن يفقد عقله ..
وأدخل مكتب رئيس الشئون الإدارية الذى أتى من أجازته نشيطاً مبتسماً ، وقبل أن يسأل الجندى عن مشكلته كان يقول له ..
: تصور يا فندم .. أمى بتموت فى البيت وأضطريت أتأخر يوم الأربعاء .. وحطونى فى السجن .. ومش قادر أخرج أشوفها .. يا ترى حصل لها إيه !
نظر الضابط الى صول السرية يقول له ..
:إدى له أجازة يوم واحد ، ولما يرجع نحاسبه على جريمة الغياب ساعتين عن الوحدة .. اتفضل دور ..
***************
لم ينتظر الجندى المختنق بمرض أمه .. وأمراض العسكرية التى أصابته استلام التصريح وخرج يهرول إلى منزله .
وهناك عرف أن الجيران لم يكتشفوا وفاة أمه إلا يوم الجمعة ، ودفنوها وهم يرون أن حالة الجثة لا تسمح لها بالانتظار .
قام الجندى يعود من حيث أتى .. ودخل دون استئذان إلى مكتب القائد وهو يهزى قائلاً ..
: تصور يا فندم .. أنا قلت لهم يوم الأربعاء أن أمى بتموت .. وحطونى فى السجن .. ومقدرتش أخرج أشوفها .. ولما خرجت النهاردة لقيتها ماتت .. والجثة تعفنت .. والجيران دفنوها ! 
.................................
وفى صباح اليوم التالى لم يكن الجندى على قوة الوحدة .. فقد كان على قوة "مستشفى الأمراض العقلية والعصبية" .
________________________ محمد البكرى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

#ديوان_الحب_الصادق #بقلم_د_مهاب_البارودي 318 - اشتاقك